العناية من خلال الحديث- تعكس الطّبيبة النّفسيّة لدى أطبّاء العالم تجربتها مع الّلاجئين السّوريّين في لبنان.
لقد أفاد الكثير من الّلاجئين السّوريين شكاوى نفسيّة, في مراكز الرعاية الصّحيّة الأوليّة الّتي تدعمها أطبّاء العالم في لبنان, والّتي تطلّب رعاية خاصّة لا يمكن توفيرها من قبل الممارسين السّائدين. ونظرا لهذا الوضع, قام أطبّاء حول العالم بتعزيز الفرق الطّبيّة في مراكز الرّعاية الصحيّة لتشمل علماء نفس .
نويل جوعان هي واحدة منهم. فمنذ آب 2013، دأبت على تقديم استشارات فرديّة للمرضى في كامد اللوز, وهي قرية في البقاع الغربي في لبنان ,في مركز الّرعاية الصّحية. تستضيف هذه المنطقة حاليّاً أكثر من 410000 لاجئ سوري. في غضون شهرين، تلقّت نويل 124 شخصاً, وخصوصاً نساء سوريّات تترواح أعمارهنّ بين 14 – 30.
ممّا يعاني مرضاك؟
نويل جوعان: هناك بالطّبع الكثير من حالات الإكتئاب والقلق, مع كلّ العوارض الّتي ترافق هذه الأمراض. حوالي 15% من مرضاي لديهم عوارض اضطراب ما بعد الصّدمة . على سبيل المثال, فهم يتجنّبون تلقائيّاَ الأماكن والأشخاص الّذين يقومون بتذكيرهم بالأحداث المؤلمة الماضية .
تذكر العديد من النّساء المشاكل الزّوجيّة. في الوقت الرّاهن, تدفع الموارد الشّحيحة الأهالي للسّعي إلى تزويج بناتهم بأي تكلفة. العديد من مرضاي خائفات من أن يقوم أزواجهم بإستغلال هذه الفرصة. يحدّثونني عن قلقهم وخوفهم من أن يقدم أزواجهم للّزواج من إمرأة أخرى.
تعتبر أحياناً, شروط العيش المتدهورة النّاجمة عن الحرب والتّهجير غير ممكنة للتّحمّل. إحدى مرضاي كانت طالبة في سوريا, دراستها كانت كلّ عالمها, لم يكن هناك مسألة أخرى لتقوم بها. اضطرّت اليوم في لبنان إلى التّوقّف عن دراستها, وتقوم حاليّا بجمع التّفّاح في الحقول. عندما تتذكّر دفتر ملاحظاتها الّتي كانت تستعمله للكتابة عليه في الجامعة, تبدأ في البكاء.
هناك حالات أخرى أشدّ خطورة بكثير. عندما ذهبت مع العيادة المتنقلة التي تتجوّل في القرى المحيطة لكامد الّلوز،التقيت بأربعة أشخاص يعانون من اضطرابات ذهنيّة, في حين أنّني لم أرَ أيّ حالة من هذا القبيل في مركز الرعاية الصحية.
هناك حالة خاصّة سبّبت لي صدمة : فتاة تبلغ من العمر 13 عاماً ولم تُظهر أيّ أعراض ذهنيّة قبل الحرب في سوريا. اليوم, هي غير قادرة على التّواصل,تعزل نفسها, وهي عدوانيّة جدّاً. لقد حدث هذا التغيّر الجذري عندما سقطت العديد من القنابل على قريتها لمدّة أسبوع. يبدو أنّ الحرب أدّت إلى مشاكل حديثة, وقد وضعها التّهجير في لبنان في مواقف حرجة والّتي تجعل حالتها صعبة للمعالجة. وفي مواجهة لردود فعلها, فإن أهل الفتاة عاجزين تماماً. عندما التقيت بالأمّ قالت لي: ” خذيها معكِ, لا أريدها هنا بعد الآن.” لقد صُدمت. ما تحتاجه هذه الطّفلة تحديداَ هو الشّعور بالأمان, وعائلة تدعمها. فإذا شعرت أنّ والدتها تريد التّخلّص منها, فهذا لن يشجّعها على إعادة التّواصل مع الواقع, بل ستبقى في عالمها.
في ظلّ الظّروف العاديّة, كانت عائلتها وأقاربها قادرين على أن يؤمّنوا لها الدّعم الّذي هي بأمسّ الحاجة إليه. ولكن اليوم في لبنان, لا يوجد لدى والديها أيّ شيء: إنّهم يعيشون في خيمة, في بلد ليس بلدهم, وليس لديهم عمل, فمن الصّعب تأمين الطّعام. وعلى رأس هذا, يجب أن يعيشوا مع الأعراض الذّهنية لطفلتهم. ففي هذا السّياق, من الصّعب جدّا لهم تقبّل حالتها ودعمها.
وفقاً لمنظّمة الصّحة العالميّة,يرتبط الجهل والعار بالإضطرابات النفسيّة في الشّرق الأوسط (1), كما في أيّ مكان آخر في العالم. ومناهج العلاج النّفسيّ وعلم النّفس غير معروفة نسبيّاً. كيف تتعاملون مع هذا في عملكم مع الّلاجئين السّوريين؟
نويل جوعان: كان من الصّعب العمل في مركز الرّعاية الصّحيّة في البدء. فالّلاجئين السّوريّين غير معتادين للإلتقاء بعلماء النّفس والتّحدّث معهم, فهذا غير مقبول إجتماعيّاً. هناك جزء من العار مرتبط بالإضطرابات العقليّة, ألا وهو اللّجوء إلى علم النّفس. وفي هذا السّياق, هناك إرادة واعية وغير واعية “للبقاء أقوياء”.على سبيل المثال,يعتقد الرّجال الّذين استشاروني من خلال أطبّاء في المركز أنّ الرّعاية الصّحيّة العقليّة لا يمكن أن تساعدعم. لأنّهم رجال, يجب أن يبقوا أقوياء وأن يتقبّلوا الوضع, ويكافحوا لأجلهم ولأجل عائلاتهم. بشكلٍ عام أكثر, أستطيع القول أنّ الّلاجئين السّوريّين لديهم القدرة على التّكيّف الإجتماعيّ اللاواعي. عندما يتحدّث مرضاي عن مشاكلهم, يبدو الأمر وكأنّهم يستطيعون تحمّل أيّ شيء. وقد يكون هذا لأنّ الجميع حولهم لديهم المشاكل نفسها: لقد فقدوا قريباً, انفصلوا عن أحد أفراد عائلتهم, كلّهم تركوا بلدهم, كما أنهم جميعاً تخلّوا عن مراكزهم الإجتماعيّة. وحتّى الآن هم يكافحون ويبدون أقوياء. وهذا يعدّ أيضاً آليّة دفاع , ولكن بالنّسبة لي فإنّه يظهرمرونة قويّة.
وفي الوقت نفسه, هناك حاجة عميقة للتّحدّث. على وجه التّحديد, لأن الكلّ لديه مشاكل,ولأنّ هذا الوضع صعب للجميع, ولا يستطيعون العثور على أحد للتّحدّث معه ضمن عائلتهم أو مجتمعهم. لذا, شيئاً فشيئاً, فإنّ كثيراً من المرضى يأتون لرؤيتي في المركز. وتأتي بعض النّساء عدّة مرّات, وأنا الآن أساعدهم تدريجياً. الكلّ يتحدّث, بغضّ النّظر من نفورهم أو تردّدهم لعلم النّفس. إنهم يتحّدثون, يتحدّثون, ويتحدثون, ولا أستطيع إيقافهم. إنّهم حقّا بحاجة إلى أن يستمع أحداً إليهم, وذلك لأنّ الإستماع لم يعد موجودا في بيئتهم اليومية.
أنا راضية إلى حدٍّ كبير لأّن هناك مرضى يعودون لرؤيتي ولرؤية تطوّرات إيجابيّة. إحدى مرضاي قالت لي أنّها تشعر بتغيّر حقيقي منذ دورتنا الأولى. إنّها الآن نضاليّة أكثر,ولديها رغبة جديدة لأن تحرّر نفسها كإمرأة. في إحدى زياراتي الأخيرة للمنازل, رأيت فتاة صغيرة مع ميول انتحاريّة كبيرة. على الرّغم من أنّها كانت حافية القدمين, ولم يكن سهلا إخفاء الوحل والخسائر الماديّة, ولكّنها كانت تحاول إخفاء بؤسها وراء القليل من مستحضرات التّجميل. بالنّسبة لي, هذا الماكياج هو تشخيص جيّد , وعلامة أمل.
________________________________________
(1) منظّمة الصّحة العالميّة، المكتب الإقليمي لشرق البحر الأبيض المتوسّط، استراتيجيّة الصّحّة النّفسيّة وتعاطي مواد الإدمان في إقليم الشرق الأوسط 2012-2016،آب 2011.